عندما تسير عربة الحياة بالأنسان ويقوم بما تمليه عليه تقاليد البشرية ... بأن يمشي في وداع وجنازة من يسبقه من كبار السن والذين نسمّيهم السابقون ونحن اللاحقون ... تبدأ ذاكرة المرء باعادة شريط الذكريات وتقف الذكرى احيانا عند رموز وشخصيات جميلة ومؤثّرة ... وغيرها تافهة نترحّم عليها دون ان نقف عندها وأحيانا لا نذكر اي مشهد من مشاهد ذلك الأنشان أو تلك المرأة .
وعندما اجلس مع وحدتي الفكرية يطوف بي ملاك الذكرى في شتّى اصقاع المناطق التي رأتها عيني أو أعتبرها انا محطّات في حياتي أذكرها .. اتحسّر عليها عندما تكون جديرة بالذكرى .. وأترحّم على ابطالها حين لا أذكر اي شيء من تاريخها .
وقد ذكرتُ عدة شخصيات في سنين حياتي كانت ذكراهم مسلّية وممتعة .... واليوم هاج بي الحنين الى شخصية ظريفة ــــ عســـــل ـــ كنت احب الصدق فيه وقوة وبساطة البرهان ... وقناعة الحياة البسيطة ... ويشكر ربّه دائما على ما أغدق عليه من نعم وخيرات وبركات ... واذا عددنا هذه الخيرات والنعم لم تكن على قدر اصابع اليد الواحدة حسب مقياس ريختر في الحياة العادية .
كان ينادي والدي بالخال ووالدي كان يناديه ايضا بالخال ... طيّب الى ابعد الحدود .. قنوع وراضي ... ثقافته بسيطة ولكنها كانت تكفيه وتزيد احيانا ... كان من العائلات الآزخينية القليلة التي كانت تدين بالمذهب البروتستانتي ... كان حين يدخل في جدال او نقاش لاهوتي او ديني او عقائدي عويص وشائك وعندما تُغلق الأمور البرهانية في عقله يلتجيء مباشرة الى ثقافة وبند عجيب وغريب في النقاش يبادر مباشرة وكأنّه افحم مجادله فيقول له مباشرة ... قي انت قريت ف راعوث ... وراعوث هو عبارة عن سفر في الكتاب المقدّس العهد القديم ولا يتجاوز الاّ اربعة فصول فقط وأغلب من قرأ الكتاب المقدّس لم يمر على هذا السفر اللهمّ الذي يريد ان يربط الأمور ببعضها ... نعم كان يتحصّن بهذه الكلمة حين يصل الى عقدة قوية في النقاش .
انه الخال نيســـــان
هناك حادثتان جميلتان لا يغيبان عن ذاكرتي .
الأولى ـــ في نهاية الستينات من القرن الماضي قدم لنا نحن طائفة السريان الكاثوليك مطرانا جديدا هو مثلّث الرحمات يوحنا كرّوم واقمنا يومها حفلا يليق باستقباله وهو يزور المدينة لأول مرة فكان الأحتفال جيدا نوعا ما وبعد القداس جلس في صالون الكنيسة ليتعرّف على طائفته وباعتباري كنت رئيس جوقة التراتيل وشماس بين جماعتنا الأزخينية كبار السن وكنت معلم في مدرستنا الخاصة يومها فكنت بين مجلس الكونكرس الكنسي بجانبه فيما اذا احتاج لأي معلومة . بعد ان انفضت الوفود وقلّت واذ بالباب يُدق بعنف رد غبطته قائلا
ادخل اتفضّل يا ابني
لم يدخل احد بل اعاد الكرّة بالدق على الباب
ـــ قلتُ لك اتفضّل يا ابني ادخل
لم يدخل احد بل جعل يقرع الباب مرة ثالثة
وهنا تضايق المطران من هذا التصرف وردّ بنبرة الأنزعاج
لا تتفضّل ولا تدخل عجّزتني
وهنا دخل الخال نيســــــان وليدل على موقفهم اي البروتستانت فقال
اولا بارخمور ســــيدنا واهلا وسهلا ف جيّتك تانيا دقيتو الباب تلات كرّات انزعجت وعصّبت يا سيدنا وما كان بقى غير تطلع لبرّا وتضربني .
دخيلكن انتن ا لكاتوليك هما تمسكووون المسبحة وووو السلام عليك يا مريم ... والسلام عليك يا مريم .... والسلام عليك ..
صرعتن العذرا ونقرتن راسا وكرّهتنا عمرا و و
وهنا قام المطران وهو في غاية الأنبساط والضحك من هذا المشهد وحضن الرجل دون ان يعرف من هو حتى قمت انا بتعريفه لسيادة المطران فأجلسه بجواره وباركه .
والحادثة الثانية
كان يسكن في بيت بسيط ومتواضع على قدر امكانياته المادية ويعمل بكدّ ونشاط بمهنة حرة يصنع صفائح من اللحم بالعجين ويبيعها ويسترزق من ثمنها وراضي ومرتاح ويعرفه اغلب عمال البلدة وينتظرون قدومه على البسكليت ليشتروا منه .
وفي احد الأيام كالعادة اشترى الخضروات اليومية من البصل والبندورة والبقدونس والنعناع والفليفلة الحمراء ووضعها عند الفران الذي يتعامل معه دوما وقال له انا ذاهب لأحضر اللحم واتجّه للقصّاب
تأخّر خالي نيسان بغير عادته ويظهر ان القصاب كان عنده الكثير من الزبائن .... ولما استعوقه الفران قام بفرم الموجود وانهى العملية بدون لحم . جاء الخال نيسان ولما استغرب وانزعج ردّعليه الفران ـــــرووح انت بيبيع هذا اليوم بلا لهم وبكرا بمشي الهال ــــ كون الفران ارمني .
اخذ خالنا الكمية ودار في الشوارع ويصيح ويحلف مع انه من شيم اخوتنا البروتستان لا يحلفون البتّة ويقووول
لحم وعجين تازا وطيب وحق الله يتاكل ف صباح الصوم الكبير ... تصوّروا هذه الدعاية الجديدة ...... لحم وعجين ويؤكل في الصوم الكبير .
فهو لم يكذب وحلف ... ولكنّه حلفان صحيح .
رحم الله خالنا نيسان اذكره واترحّم عليه في بداية كل صوم كبير ...... لأني أكلت منه وبالفعل
يؤكل في صباح الصوم الكبير